الخميس، 5 نوفمبر 2020

معنى قوله تعالى وما هي من الظالمين ببعيد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد ورد في السنة النبوية في أمر تعذيب قوم لوط أن جبريل ضربهم بجناحه، فطمس أعينهم، وأذهب بصرها، فقد روى الحاكم في كتابه المستدرك على الصحيحين بإسناده عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْفُوعًا قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ نَحْوَ قَرْيَةِ لُوطٍ وَأَتَوْهَا نِصْفَ النَّهَارِ، فَلَمَّا بَلَغُوا نَهَرَ سَدُومٍ لَقَوُا ابْنَةَ لُوطٍ تَسْتَقِي مِنَ الْمَاءِ لِأَهْلِهَا ـ وَكَانَ لَهُ ابْنَتَانِ ـ فَقَالُوا لَهَا: يَا جَارِيَةُ، هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، مَكَانَكُمْ لَا تَدْخُلُوا حَتَّى آتِيَكُمْ فَأَتَتْ أَبَاهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ أَدْرِكْ فِتْيَانًا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ مَا رَأَيْتُ وُجُوهَ قَوْمٍ هِيَ أَحْسَنُ مِنْهُمْ لَا يَأْخُذُهُمْ قَوْمُكَ فَيَفْضَحُوهُمْ، وَقَدْ كَانَ قَوْمُهُ نَهَوْهُ أَنْ يُضِيفَ رَجُلًا حَتَّى قَالُوا: حَلَّ عَلَيْنَا فَلْيُضَيِّفِ الرِّجَالَ فَجَاءَهُمْ وَلَمْ يُعْلِ
مْ أَحَدًا إِلَّا بَيْتَ أَهْلِ لُوطٍ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهُ، قَالَتْ: إِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ رِجَالًا مَا رَأَيْتُ مِثْلَ وُجُوهِهِمْ قَطُّ، فَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَتَوْهُ قَالَ لَهُمْ لُوطٌ: يَا قَوْمِ اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رُشَيْدٌ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهُرُ لَكُمْ ـ مِمَّا تُرِيدُونَ، قَالُوا لَهُ: أَوَ لَمْ نَنْهَكَ إِنْ تُضَيِّفَ الرِّجَالَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ، فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَهُ عَلَيْهِمْ، قَالَ: لَوْ أَنَّ لِيَ بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ـ يَقُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: لَوْ أَنَّ لِي أَنْصَارًا يَنْصُرُونِي عَلَيْكُمْ أَوْ عَشِيرَةً تَمْنَعُنِي مِنْكُمْ لَحَالَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا جِئْتُمْ تُرِيدُونَهُ مِنْ أَضْيَافِي، وَلَمَّا قَالَ لُوطٌ: لَوْ أَنَّ لِيَ بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ بَسَطَ حِينَئِذٍ جِبْرِيلُ جَنَاحَيْهِ فَفَقَأَ أَعْيُنَهُمْ وَخَرَجُوا
يَدُوسُ بَعْضُهُمْ فِي آثَارِ بَعْضٍ عُمْيَانًا، يَقُولُونَ: النَّجَا النَّجَا، فَإِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ أَسْحَرَ قَوْمٍ فِي الْأَرْضِ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ { القمر: 37} وَقَالُوا: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطِعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُكَ ـ فَاتَّبِعْ آثَارَ أَهْلِكَ، يَقُولُ: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ـ فَأَخْرَجَهُمُ اللَّهُ إِلَى الشَّامِ وَقَالَ لُوطٌ: أَهْلِكُوهُمُ السَّاعَةَ فَقَالُوا: إِنَّا لَمْ نُؤْمَرْ إِلَّا بِالصُّبْحِ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ السَّحَرُ خَرَجَ لُوطٌ وَأَهْلُهُ عَدَا امْرَأَتِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ {القمر: 34 ـ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وقال الذهبي في كتابه التلخيص: على شرط مسلم. اهـ.

وبالنسبة للمراد من قوله تعالى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ـ قال ابن جُزيٍّ في تفسيره التسهيل لعلوم التنزيل: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ـ الضمير للحجارة، والمراد بالظالمين: كفار قريش، فهذا تهديد لهم، أي ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم لأجل كفرهم، وقيل: الضمير للمدائن ـ أي قرى قوم لوط ـ فالمعنى: ليست ببعيدة منهم، أفلا يعتبرون بها، كقوله: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ {الفرقان: 40} وقيل: إن الظالمين على العموم. اهـ.

وقال الشنقيطي في كتابه: أضواء البيان: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ـ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ: اثْنَانِ مِنْهَا كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، وَوَاحِدٌ يَظْهَرُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ… أَمَّا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْآنٌ: فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ دِيَارَ قَوْمِ لُوطٍ لَيْسَتْ بِبَعِيدَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لِنَبِيِّنَا، فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِمَا وَقَعَ لِأَهْلِهَا إِذَا مَرُّوا عَلَيْهَا فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى الشَّامِ، وَيَخَافُوا أَنْ يُوقِعَ اللَّهُ بِهِمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا وَقَعَ مِنَ الْعَذَابِ بِأُولَئِكَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ لُوطًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ـ وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ ل
َآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ـ وَقَوْلِهِ: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ـ وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ـ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا هِيَ ـ رَاجِعٌ إِلَى دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْمَقَامِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا تِلْكَ الْحِجَارَةُ الَّتِي أُمْطِرَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ بِبَعِيدٍ مِنَ الظَّالِمِينَ لِلْفَاعِلِينَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ، فَهُوَ تَهْدِيدٌ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ـ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ـ ظَاهِرٌ جَدًّا فِي ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. اهـ.

وعلى كلا المعنيين، فلا يشترط ـ والعلم عند الله ـ اجتماع جميع الخصال التي كان يفعلها قوم لوط في تحقيق الوعيد، فإن قريشًا ومشركي العرب مع تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع فيهم تلك الخصال أجمعين، ومع ذلك توعدهم الله بأن يصنع فيهم صنيعه في قوم لوط.

وأما الزعم بأن نساء قوم لوط كُن يفعلن فاحشة السحاق، فإنه يحتاج إلى دليل ناهض، فإن القرآن أخبرنا بما كان يفعله رجال قوم لوط ولم يخبرنا بما كان يفعله نساؤهم، وعلى كل حال قد شمل العذاب قوم لوط أجمعين، رجالاً ونساءً، ولو لم يفعل النساء ما فعله رجالهم، فقد كان الجميع كافرين مكذبين للوط عليه السلام، فاستحقوا العذاب، ولا يظلم ربك أحدًا، قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ {الشعراء:160}.

ومما يستدل به على أن الكفر بتكذيب الرسول كافٍ في إيقاع العقوبة التي أصابت قوم لوطٍ، ما تقدم ذكره من أن الله تعالى توعَّد قريشًا لما كذبوا نبينا عليه الصلاة والسلام بأن يصيبهم ما أصاب قوم لوط.

والله أعلم.

إسلام ويب

التسميات: ,

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية