في ليلة زفافها رأت شعاعاً من النور خرج منها فأضاء الدنيا من حولها حتى تراءت لها قصور بصرى في الشام وسمعت هاتفاً يقول لها: يا آمنة لقد حملتِ بسيد هذه الأمة.
هذه آمنة
من بني زهرة، أحد بطون قريش ذات المكانة العظيمة، وبني عبدالدار بن قصي وهو بطن عريق آخر في قريش، جاءت زهرة طاهرة ثمرة لزواج مبارك بين “وهب بن عبدمناف” سيد بني زهرة شرفا وحسبا ، و”برة بنت عبدالعزى” ذات النسب الأصيل.
هذه الزهرة الطاهرة هي “آمنة بنت وهب” التي حملت في بطنها أشرف الخلق “محمداً” نبي الرحمة .
وقد عُرفت آمنة بـ “زهرة قريش”، وكانت مخبأة من العيون ، حتى إنَّ الرواة كانوا لا يعرفون ملامحها. وقيل فيها إنها عندما تمت خطبتها على عبدالله بن عبدالمطلب كانت حينها أفضل فتاة في قريش نسباً وموضعاً، وقد عرفت آمنة في طفولتها ابن العم “عبدالله بن عبدالمطلب”، عرفته قبل أن ينضج صباها ، وتلاقت معه في طفولتها البريئة على روابي مكة وبين ربوعها ، وفي ساحة الحرم، وفي مجامع القبائل، ولكنها حجبت منه عندما ظهرت عليها بواكر النضج، وحينها تسارع فتيان مكة إلى باب بني زهرة من أجل طلب الزواج منها.
وهذا عبدالله
لم يكن “عبدالله بن عبدالمطلب” بين الذين تقدموا لخطبة “زهرة قريش” برغم ما له من الرفعة والسمعة والشرف، فقد منعه من التقدم إلى “آمنة” نذر أبيه بنحر أحد بنيه لله عند الكعبة؛ حيث إن عبدالمطلب حين اشتغل بحفر البئر، لم يكن له من الولد سوى ابنه “الحارث”، فأخذت قريش تعيب عليه ذلك، فنذر يومها إذا ولد له عشرة من الأبناء سوف ينحر أحدهم عند الكعبة، فأنعم الله عليه بعشرة أولاد أصغرهم “عبدالله” وهو الذي استقر عليه السهم ليكون هو الذبيح.
ولم يستطع “عبدالمطلب” الوفاء بنذره؛ لأن عبدالله أحب أولاده إليه، وأتى الفرج فقد أشار عليهم شخص وافد من “خيبر” بأن يقربوا عشراً من الإبل ثم يضربوا القداح فإذا أصابه، فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، فإذا خرجت على الإبل فانحروها، فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم، وظلوا على هذه الحالة ينحرون عشرًا ثم يضربون القداح حتى كانت العاشرة، بعد أن ذبحوا مائة من الإبل فداءً لعبدالله .
وهكذا اجتمعا
بعد ذلك توجه “عبدالمطلب” إلى “وهب” خاطبًا “آمنة” لابنه “عبدالله” فغمر الفرح نفس “آمنة”، وبدأت سيدات آل زهرة تتوافد الواحدة تلو الأخرى لتبارك هذا الزواج، وقيل بأن الفتيات كن يحسدن آمنة لأن عبدالله اشتهر بالوسامة، فكان أجمل الشباب وأكثرهم سحرًا، واستغرقت الأفراح ثلاثة أيام، انتقل بعدها العروسان الى بيتهما ليبدآ حياتهما على بركة الله.
ولكن “عبدالله” لم يبق مع عروسه إلا أيامًا قليلة؛ ثم كان عليه أن يلحق بالقافلة التجارية المسافرة إلى غزة والشام، ومرت الأيام وشعرت خلالها “آمنة” ببوادر الحمل، وكان شعورًا خفيفًا لطيفًا ولم تشعر فيه بأية مشقة أو ألم حتى وضعته، وتذكرت أنها في ليلة زفافها رأت شعاعاً من النور خرج منها فأضاء الدنيا من حولها حتى تراءت لها قصور بصرى في الشام وسمعت هاتفاً يقول لها: يا آمنة لقد حملتِ بسيد هذه الأمة.
بكاء مكة
وجاء الخبر الفاجع؛ حين علمت آمنة من أبيها بوفاة زوجها وحبيبها عبدالله، ولم تبك عليه وحدها؛ بل بكت عليه مكة كلها.
ولادة محمد بن عبدالله
أنزل الله عز وجل الطمأنينة والسكينة في نفس “آمنة”، وأخذت تفكر في الجنين الذي وهبها الله عز وجل والذي وجدت فيه مواساة لها عن وفاة زوجها الحبيب، ووجدت فيه من يخفف أحزانها، وجاءتها آلام المخاض، فكانت وحيدة ليس معها أحد، ولكنها شعرت بنور يغمرها من كل جانب، وخيل لها أن “مريم ابنة عمران”، “وآسية امرأة فرعون”، و”هاجر أم إسماعيل” كلهن بجانبها، فشعرت بالنور الذي انبثق منها، ومن ثم وضعت وليدها
واكتملت فرحة “آمنة”، ولم تعد تشعر بالوحدة، وفرح الجد “عبدالمطلب” بحفيده ، وشكر الله على نعمته العظيمة وسماه “محمداً”، ولما سئل عن سبب تسميته محمداً قال ليكون محموداً في الأرض وفي السماء.
“حليمة” ترضعه حنانا ومحبة
عندما وقفت أمام “عبدالمطّلب” سألها عن اسمها، ولمّا أخبرته بأن اسمها حليمة السعدية تفاءل وقال: حلم وسعد
كانت تلك هي “حليمة السعدية” التي أرضعت أشرف الخلق”محمداً” نبي الرحمة.
إرسال أطفال الأشراف إلى البادية
فقد اعتاد الأشراف من العرب إرسال أولادهم إلى البادية للرضاعة فى ذلك الجو النقي، وحتّى يشبّ الولد وفيه فصاحة اللغة البدوية، وشجاعة أبناء البادية وقوتهم، وهذا مافعله “عبدالمطلب” جدُّ الصغير “محمدٍ” بعد ولادته، فأمر عبدالمطّلب أن يُؤتى إليه بالمرضعات؛ ليختار منهنّ واحدة لحفيده الحبيب إلى قلبه، فأتت النساء تسعى إلى عبدالمطّلب؛ لتنال شرف إرضاع هاشمي، إلا أنهن كن يخشين من أن ذلك الصغير اليتيم لم يعطيهن أحد مقابل إرضاعه، ولكنهن أدركن أن له جد يرعاه هو “عبدالمطلب” ذلك القرشي الشريف النسب، لكن الصغير “محمدًا” لم يقبل الرضاعة من أيّة امرأة منهنّ، وكان يبكي مشيحاً بوجهه عنهن، فكُنّ يرجعن عنه وهن لايعرفن سبب إعراضه عنهن.
لم يعرفن أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ إلا أن ترضع نبيه – عليه أفضل الصلاة والسلام – أطهرهن وأشرفهن، ألا وهي “حليمة السعدية ” بنت أبي ذؤيب عبدالله بن الحارث السعدية، زوجها هوالحارث بن عبدالعزّى بن رفاعة السعدي المضري.
ورجعت كل المرضعات بالاطفال إلا حليمة التي لم تجد من تعود به حتى أعطَوها الصغير “محمدًا” وإذا به به يقبل عليها ببهجةٍ وسرور ولا يبكي كما فعل مع غيرها، ويبدأ في الرضاعة بطمأنينة وسلام، ففرح الجد كثيراً.
وهكذا عادت حليمة إلى قومها وهي تحمل هذا الصغير المبارك، ولم تكن تدرك وقتها أنها عادت إلى بيتها بخير الدنيا، ونعيم الآخرة، وعلى قبيلتها الفقيرة البسيطة بالبركة والخير الوفير، فكانت أغنامها تمتلئ باللبن على غير العادة، والأرض تنمو بالثمار الطيبة بِيُمنِ وبركة هذا الصغير.
وعنه قالت (رضي الله عنها): كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشِبُّ فِي الْيَوْمِ شَبَابَ الصَّبِيِّ فِي شَهْرٍ، وَيَشِبُّ فِي الشَّهْرِ شَبَابَ الصَّبِيِّ فِي سَنَةٍ،.
وقالت : سمعته لمّا تمّت له (صلى الله عليه وآله وسلم) سنة يتكلّم بكلام لم أسمع أحسن منه، سمعته يقول: قدّوس قدّوس نامت العيون والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم، و لم أر قط فى طهارته ونظافته.
ومن حبها وعشقها للصغير “محمد” كان شعرها فيه ينطق بذلك حين تقول :
يا ربّ بارك في الغلام الفاضل ** محمّد سليل ذي الأفاضل
وأبلغه في الأعوام غير آفل ** حتّى يكون سيّد المحافل
يا ربّ إذ أعطيته فأبقه ** وأعله إلى العلى وأرقه وادحض أباطيل العدى بحقّه
رضي الله عنها وأرضاها، فقد حملت بين ذراعيها خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وفاضت عليه من حنانها وحبها ماعوضه قسوة اليُتم.
صلوا ياعشاق على عالي القدر المعظم … صل على النبي تنجو من حرٍّ لظى ويزول الهم … شرف مكة لما أتاها ثم النور علاها وعم … سلامي على من خاصه الله بالكرم … سلامي على الممدوح في نون والقلم … سلامي على من قال ياربي أمتي أجرها من النيران ..
صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم
التسميات: إسلاميات